(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون 4(إلا الذين تابو من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)
تفسير سورة النور – الحلقة السادسة – آية (4ـ5) – 30/7/2012
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين
قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون 4(إلا الذين تابو من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)
مقدمة : الآيات تضع الحكم وتعالج المشكلة وتبعاتها..
الآيات متصلة مع بعضها البعض وإن لم يكن السياق في ذاته حجة ولكن هنا الآيات تجدها متصلة مع بعضها البعض وكأنها تتحدث وتجيب على كل تساؤل يخطر ببال الشخص القاري لهذه الآيات ، عندما كان الحديث حول الزانية والزاني وحكم الجلد بعد ذلك بينت أنه كيف يكون التعامل معهم من جهة الزواج ، بعدها هل أطلق العنان لكل شخص أن يتكلم أم لا في هذا الموضوع ؟
الآيات تجيب أنه وإن كانت العقوبته شديدة إلا أنه ليس الباب مفتوحا ليتحدث كل شخص في أعراض الآخرين ، وإذا تحدث فله عقوبة أيضا، وهو يستحق العقوبة , ثم يأتي تساؤل آخر أنه هذا الشخص الذي يعاقب وعقوبته شديدة بل ربما يقال أنها أبدية ،إذا تاب ما هو مصيره؟ بينت الآية أيضا قضية التوبة لمن قذف أيضا
أولا: الإسلام لا يريد وقوع الزنا
الإسلام لا يريد وقوع الزنا وهذا واضح , وبهذا التشديد الذي مر في الآيات السابقة إتضح بما فيه الكفاية ، ولكن هل يريد الإسلام منع الزنا بهذه العقوبة ؟
بجعل هذه العقوبة ليمنع الزنا ؟
الجواب :طبعا ليس هذا على الإطلاق , وإنما هناك طرق وسبل هي الأصل في الإسلام لمنع الفواحش , والعقوبة آخر العلاج ,وكما يقولون آخر العلاج الكي.
1ـ التربية الإسلامية الصحيحة
يعني أراد أن يمنع وقوع الفاحشة في المجتمع ولكن بمنهجية تربوية في المجتمع يرتقي من خلالها الإنسان ليستقبح هذه الأفعال ويرجوا الخير مما عند الله سبحانه وتعالى
2ـ التشجيع على الزواج وتسهيل أمور الزواج
شجع الإسلام على الزواج ، الإسلام يركز على ضرورة الزواج وأهمية الزواج ليجتنب المجتمع عن الفواحش
3ـ تشريع أحكام العفة , من اللباس, والستر , وعدم الخلوة وو
وغيرها من الأحكام التي تحصن المجتمع كي لا تتمكن الرغبة الجنسية والشهوة منه فيقع في الفاحشة
4ـ العقوبة بالحد والجلد لمن لا تنفع ولا تجدي معهم الوسائل الأخرى
فالحد بالجلد شرعه الله تعالى لمرضى النفوس الذين لا ينفع معهم غير الكي , والإسلام في علاجه لأي مشكلة لا يغفل جميع السبل التي تناسب المرضى فمن يحتاج لمرهم يداويه به ومن يحتاج للكي والنار يعالج بها وهذه هي أوصاف الحق يضع الشيء في موضعه كما كان رسول الله (ص) يقول أمير المؤمنين (ع) واصفاً النبي (ص): (طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه.. يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمى، وآذان صم، وألسنة بكم.. متتبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة).
ثانيا: الحكم شامل للرجل والمرأة
الأحكام شاملة للرجال والنساء، يعني هذه الأحكام عندما قال (والذين يرمون المحصنات )، يشمل الإثنين من الطرفين ، يعني إذا كان الرامي رجل فيشمله وإذا كان الرامية إمرأة أيضا المفتري أو المفترية ، القاذف أو القاذفة ، إمرأة أو رجل يشملهم
وأيضا المقذوف أيضا رجلا كان أو إمرأة أيضا يشمله الحكم ، فهي عامة وتشمل الجميع مع أنها جاءت بلفظة المحصنات إشارة للنساء
ذكرنا وبينا معنى المحصنة في هذه الآية ،
المحصنة : تعني العفيفة لا تعني المتزوجة وإنما أعم من المتزوجة ، لأنها المرأة العفيفة التي لا تزني ،غير متجاهرة بالزنا ، لم تعرف بالزنا ، عفيفة سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة
ثالثا: لماذا الإبتداء بالمرأة ؟
لماذا إبتدأت الآية بالمرأة وذكرت المرأة ولم تذكر الرجل (الذين يرمون المحصنات ) ذكرت النساء
الجواب:
1ـ ربما لأنها أضعف في الدفاع عن نفسها
لأن المرأة ضعيفة في الدفاع عن نفسها فتقدم في هذا الأمر ، لبيان الحرص على أن لا تتهم ولا تقذف
2ـ لأنها تتأثر بالتهمة أكثر من الرجل في جميع أمورها
عندما يشاع على إمرأة أنها زانية الأثر الذي يترتب عليها على هذه التهمة أكثر بالنسبة للمرأة إجتماعيا ، نفسيا ، أمور كثيرة تترتب للمرأة أكثر من الرجل
3ـ ربما لأن المجتمع عادة يستضعفها
ربما لأن المرأة مستضعفة في المجتمع أو لنظرة المجتمع للمرأة أنها ضعيفة ويستضعفها ، والإسلام يقول أنا أقف بصفها ( والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له) لا يتركها هكذا ، يدافع عنها ، ربما هذه هي الأسباب التي قدمت المرأة بسببها في الآية
رابعا: الشهادة الغير التامة
(ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) الشهادة ليست تامة ماذا يكون ؟
1ـ يجب السكوت إذا لم يكونوا أربعة
جاء شخص ورأى الزنا ورأى الفاحشة لكنه لوحده يقال له إسكت ، عليك بالصمت ، جاء شخصان أو ثلاثة , عليهم الصمت أيضا , ولا يجوز لهم الحديث لأن الشهادة غير تامة
2ـ الشاهد لا يقال له إذهب إلى بيتك إلا إذا تمت الشهادة بـأربعة شهود
الشاهد الذي يشهد بالشهادة غير تامة هل يترك ؟ أو يقال له إذهب ؟
مثلا يأتي للمحكمة ويدلي بشهاده يأخذون أقواله ويقولون له إمض ، في هذا الموضوع ليس كذلك وإنما يوقف حتى تتم الشهادة فإذا كانت الشهادة غير تامة سواء كان وجود شهود مثلا معه شاهدان أو ثلاثة ولكنهم إختلفوا في التفاصيل , يوقف وإذا لم تتم الشهادة يقام عليه الحد (الجلد )
لأنه غير مسموح له أن يتحدث في هذا المجال بغير دليل تام , ديل شرعي واضح .
يعني شهادته خطر عليه إلا اذا تمت بشروطها , تترتب عليها آثار إن ثبتت على من شهد عليه , وإلا فآثارها عليه هو.
خامسا: لماذا (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)؟
الآية قالت ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، تأبيد عدم الشهادة
1ـ لأن القضاء الإسلامي العادل يحترم من يرعى حدود الله
القضاء الإسلامي العادل يحترم من يحترم حدود الله ويراعي الشرع ، يحترمه القضاء ويقبل قوله ولكن الذي لا يحترم الشرع ولا يحترم حدود الله قد يكون هو صادق في دعواه أو في قوله أنه فعلا رأى الزنا وهو صادق ولكن الإسلام في نفس هذا المجال جعل طريق وهو الشهادة بأربعة شهداء ، وهو جاء لوحده وشهد ، جاء لوحده أو مع إثنين أو مع ثلاثة ولكنهم لم يكونوا بالصورة المطلوبة الكافية ، هنا هل يقال له إمض ؟
أو أنه يعاقب؟ وبعد العقاب أيضا يبقى مرفوض الشهادة في كل شيئ لا تقبل له شهاده في شيئ
2ـ لأنه إذا تحدث في أخطر الأمور وأغلاها وهو الشرف فلا يعتمد
من غير معتمد شرعي تحدث في هذا الامر وهذا أخطر الأمور فكيف تأمن أنه لا يتحدث في ما دونها من غير معتمد ، لذلك أيضا يرفض ، الذي يتحدث في أعراض الناس ويخدش في أعراض الناس لا تقبل شهادته لأنه غير مأمون من الأقوال الباطلة.
3ـ لتبقى عقوبة رادعة له وواقية لكل من تسول له نفسه بالقذف
للجميع ، كل من يخطر في باله أنه يتحدث بما رأى أو ما لم يرى ، لكنه من غير شهادة تامة إذا سولت له نفسه يتذكر هذه العقوبة أنه يكون مرفوض ولا يقبل منه شيئ
سادسا: (وأولئك هم الفاسقون)
الفاسقون المنحرفون عن خط الطاعة لله سبحانه وتعالى ، الذي يخرج عن خط الطاعة يسمى فاسق
سابعا: (إلا الذين تابو من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)
إذا تاب التائب الله سبحانه وتعالى فإن غفور رحيم
1ـ القاذف يفقد الإيمان
لا يكون مؤمن ، ما دام يقذف الآخرين و يتكلم عنهم فهو فقد الإيمان
عن الإمام الصادق (ع) : (إذا إتهم المؤمن أخاه إنماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء) لو كان هذا مؤمن و في قلبه إيمان يتلاشى بهذه التهمة ، مجرد أنه يتحدث في عرض أحد لا يبقى له إيمان
2ـ الباب لا يسد ولا يأيس من القبول
لا يسد الباب أمام العبد فإذا تاب وطهر نفسه وندم وأصلح (.. فإن الله غفور رحيم) عليه أن يتوب ويصدق في توبته والله سبحانه وتعالى غفور رحيم
3ـ شرط التوبة :
وهو ( وأصلحوا) هنا المطلوب منه هذا , الذي يقول تبت عليه أن يصلح ، أن يصلح ما أفسده ، إذا تأثرت سمعة شخص بحديثك عنه وعن عرضه عليك أن تتوب ، تندم ، وتعزم على عدم العود ولا يكفي هذا ، لا بد أن تصلح بنفس المستوى الذي أفسدت , ليس أقل , فإذا تحدثت في مجلس يجب عليك أن تقول لجميع من سمع أنك كنت تكذب ، أنك لا تمتلك الدليل الشرعي ، وإذا كتبت في جريدة أو مجلة أو في وسيلة إعلام ، في جميع الوسائل عليك أن توصل كما أوصلت التهمة سابقا ، فإذا عمل ذلك فإن الله غفور رحيم
ثامنا: رجوع الإستثناء
الإستثناء في قوله : (إلا الذين تابو من بعد ذلك)هنا يوجد إستثناء ، يقولون في هذه الآية ، الآية ذكرت أمور (فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون )
ــ ثلاث جمل , هنا مسألة أصولية ، يقولون الإستثناء إذا كانت قبله جمل متعددة يرجع لأيها ؟
المعروف أنه يرجع للأخيرة ، ولكن بعضهم يقول إذا كان هناك قرائن على الجمل الأخرى يشملها ، فهنا إحتمالات ثلاثة
1ـ أنها راجعه للجميع , الجلد , والشهادة , والفسق
الجلد : يعني لا يقام عليه الحد الشرعي عليه إذا تاب
والشهادة : عدم قبول الشهادة ، تكون شهادته مقبولة بعد التوبة هذا الإحتمال يقول هكذا
الفسق : الفسق يرتفع فلا يبقى فاسقا .
هذا إحتمال ولكن لا يقول به المفسرون ، لا يذكره المفسرون على أن له إعتبار .
فحتى إذا تاب القاذف لا يرتفع عنه الحد وهو الجلد .
2ـ الذي يرتفع بهذا الإستثناء : الشهادة , والفسق , لأنهما عقوبة واحدة . وهذا ما يراه السيد الطباطبائي (رحمة الله عليه ) يقول رد الشهادة مترتب على الفسق فهما عقوبة واحدة ، فإذا إرتفع الفسق إرتقع رد الشهادة المترتب على الفسق ، فيكون مقبول الشهادة ، هذا رأي الطباطبائي
3ـ أنه راجع للجملة الأخيرة فقط وهي ( وأولئك هم الفاسقون)
هذا الرأي يقول الإستثناء راجع فقط لهذه الجمله الأخيرة وهذه العقوبة , وهي الفسق ، وهذه العقوبة مستقلة , وهو ما يراه الشهيد المطهري , فيقول فقط هذه التي ترتفع ، فيبقى الشخص الذي قذف ثم تاب يقام عليه الحد أولا ، ولا تقبل شهادته ثانيا ، وإن إرتفع الفسق بعد التوبة ،
يعني يمكنه أن يكون إمام جماعه يقول المطهري ، ويمكنه أن يكون فقيها ومرجعا ، ويمكنه أن يقوم بكل شيئ ، إلا أنه لا تقبل له شهاده بشيئ ، بنص الآية أبدا ، فلا تبقى له شهاده ولا تقبل شهادته في شيئ أبدا .
هذا كله تشديد لحفظ أعراض الناس , لكي لا يتكلم أحد في أعراض أحد من غير طريق شرعي , ومن غير علم ، ولو كان الأمر واقعا فليس كل ما يعلم يقال ، لا يقول شخص علمت ورأيت , ولا أتكلم بشيئ من عندي رأيتهم يعملون ، يقال له لا يجوز وإذا تكلمت فأنت تستحق هذه العقوبة .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين