تفسير سورة النور
الحلقة: 19
الآية (27ـ29)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وىله الطيبين الطاهرين
قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ)29
أولا: فوائد الإستيناس : (ذلكم خير لكم )
الإستمرار بمنهج الإستئذان لدخول البيوت وعدم إقتحام البيوت من غير إستئناس هو
خير وسلامة وبركة . والإستيئناس هو إستئذان ولكن ليس أي إستئذان وكيفما كان وإنما
إستئناس وطلب الأنس والسكينة ، وهو أرقى درجات الإستئذان .
الإستئذان فيه فوائد كثيرة :
1ـ يخلق المحبة وروح الأخوة والإحترام بين الناس
إذا كنت لا تدخل بيتا إلا بعد إذنهم ، أي بعد رضاهم ، بعد إستشعار الرضا الحقيقي منهم ، هذا يخلق الوّد و المحبة بينك وبينهم ، لأنك تراعي مشاعرهم ، وهم أيضا يراعون مشاعرك فتُخلق الإلفة والمحبة والإرتباط بينكم
2ـ التعاون على ستر القبيح وإظهار الجميل.
من الفوائد العظيمة ، والفائدة الكبرى في هذا الخلق العظيم الستر
والعفة ، حفظ الجو الأسري ، وما في الأسرة من أمور خاصة لا تظهر ، فإذا كان هناك
شيئ قبيح عندهم لا يحبون إظهاره ، أنت تساعدهم على الستر ، هم يسترونه ولا يريدون كشفه ، وأنت لا تقتحم لمعرفته فأنت تساعدهم على ستره ، وتقبل ما يحبون كشفه من إظهار الجميل والأمور الحسنة ، فكم هي عظيمة فائدة الإستئناس
3ـ الحياة العائلية والمنزلية خاصة لا يجوز إختراقها
في هذه الآيات المباركة ، الإسلام يقول هذه حياة خاصة ، الأسرة ليست كالشارع ، حياة خاصة لها منزلة ولها حرمة ، ولها مقام ، ولها إحترام خاص ، يجب أن يرعى هذا الإحترام ويتعامل معها بصورة خاصة لأن الإنسان في طبيعته إذا خرج مع الناس خروجه مع الناس يختلف عن وضعه في أسرته.
يتعامل مع الناس بأموره الرسمية باللباس الرسمي ، ولكنه إذا رجع إلى البيت يكون في جوه الخاص ، يعيش حالة خاصة ، لا اللباس يبقى كما هو لابس لباس العمل في الخارج ولا يبقى كما هو في الخارج ، قد يختلف في أكله ونومه وحديثه ، كل هذه الأمور ، عادة تختلف ، لذلك هي حياة خاصة .
الإسلام يريد أن يحفظ ويراعي هذه الخصوصة ، ولا يريد من الإنسان أن يبقى في تصرفاته كما هو في أموره الرسمية طوال الوقت . ولولا الإستيذان ، يبقى الشخص والمجتمع متوترا ينتظر ويتوقع أن يدخل عليه أي إنسان وفي أي وقت ، وهذه الحياة بهذه الصورة تكون صعبة.
4ـ الإستئناس(المستأذن) يبين الأمان ويعطي الأمان من نفسه.
الإستئناس يعني أنت تأتي وتستأذن وكأنك تقول لهم أنتم في أمان مني ، تعطيهم الآمان فإذا دخلت يشعرون بالآمان منك ، ليس هناك خوف ، أما أن يقتحم البيت من غير إستئذان ، يدخل من غير إستئناس ، فأصحاب البيت لا يعيشون الأمان . تبقى في نفوس أصحاب البيت أسئلة : ما هو الهدف من دخول هذا الشخص ؟ لا يعلمون هل هو عدو أم صديق؟ هل يريد كشف أسرار بيتنا؟
أما إذا كان جاء وهو يستأذن ويطلب رضاهم وسترهم فهم في أمان منه لأنه يعطيهم الآمان من نفسه بإستئناسه وإستئذانه
ثانيا: (لعلكم تذكرون)
فيها فوائد (تذكرون)
1ـ تذكرون ما يجب من سنة الأخوة والمحبة التي بها السعادة
الآية تقول تشرع الله لكم هذا التشريع لعلكم تذكرون أو تستوعبون وتلتفتون لسنة الأخوة والإحترام ، هذه تعاليم لحفظ الإحترام بين الناس وأسلوب المعاشرة بين الناس لعلكم تلتفتون وتنتبهون لذلك
2ـ لعلكم تذكرون مواعظ الله وحكمة تشريعه فتعملوا بها.
هذا التشريع الذي بني على الحكمة ، بُني على ما يناسب الإنسان ، يعني الآية تريد أن تقول أنك مجرد أن تلفت لهذه التعاليم يزداد إيمانك بالإسلام وإقتناعك بالدين لعلك تتذّكر وتلتفت لحكمة هذا التشريع فتقتنع بهذا الدين أكثر
3ـ لعلكم تذكرون ما في فطرتكم
تدل على أن هذه التعاليم الدينية موجودة ومرتكزة في فطرة الإنسان كأنها ترجع الإنسان إلى فطرته تقول إرجع إلى فطرتك ستجد أن هذه التعاليم التي توجب الإحترام المتبادل ومراعاة الآخرين موجودة في فطرتك أيها الإنسان ، فهذه تعاليم يقبلها الإنسان و يطلبها
ثالثا: (فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم) ماذا تعني:
1ـ هل نطلع حتى نعرف هل في البيت أحد أم لا؟
لم أسمع صوت في البيت هل أسترق السمع لأسمع في البيت أحد أم لا ؟ هل أطلع على داخل البيت ؟ لا لا يجوز .
فإن لم تجدوا فيها أحد فلا تدخلوها ، وإن لم يؤذن لكم إرجعوا .
فمجرد أن يقال لك إرجع ، إرجع ، وإن سكتوا ولم تسمع صوت إرجع ، بمعنى لم تجد أحد ، لم تسمع صوت أحد إرجع. النتيجة لا تطلع ولا تسترق السمع . لا بد أن تحصل الإذن ممن له صلاحية الإذن في ذلك وإلا عليك بالرجوع
2ـ حكم الدخول في المنازل المملوكة
الآية تبين حكم الدخول للمنازل التي لها أصحاب يملكون الأذن والمنع , سواء كان فيها نساء أو لا، أو كان فيها رجال أو لا ، وتبين أن ذلك غير جائز.
ربما يتصور البعض ويفهم أن القضية مرتبطة بمسألة النساء ووجود النساء وعفاف النساء فقط ، الآية تقول لا ، إذا لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها ، حتى لو لم يكن فيها أحد ، فيها رجال أو ليس فيها رجال ، إذا أٌذن لك تدخل وإلا فارجع.
رابعا: (و إن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم و الله بما تعملون عليم)
هنا فوائد وأمور:
1ـ هو أزكى لكم
أي هو أطهر لكم ولأهل ذلك البيت لأن فيه يحفظ عوراتهم ، ورجوعك يحفظ كرامتك.
إذا قيل إرجع ولم يستقبلوك إرجع ، هو أطهر لك ولهم من جهتين لهم : من جهة
أنك تحفظ عوراتهم ، لا تدخل هكذا ، ربما عندهم أمور لا يريدون أن تراها لك : وهو أزكى لك أيضا لأنك ترجع بكرامتك ، لا يقول لك صاحب البيت لماذا دخلت وكشفت سترنا ، فهو أزكى لك وأطهر لك أيضا
2ـ واقعنا المعاصر والبعد عن الآية ينتج واحدة من ثلاث:
نحن هل نلتزم بهذه الآية أو لا ؟هل نحن نستأذن أو لا نستأذن ؟هل إذا قيل لنا إرجعوا نرجع أو لا نرجع ؟ وبالأساس هل يقال لنا إرجعوا أو لا يقال ؟
ربما لا يقال لماذا ، لأننا غير ملتزمين يعني ليس عندنا القابلية لتقبل هذا الأمر صعب أذهب لبيت ويقول لي صاحب البيت إرجع أنا مشغول ، فيها صعوبة يعني نحن غير ملتزمين بهذه الآية، ينتج من ذلك حالات:
الأولى: كذب صاحب الدار , والكذب كبيرة لا يريد إستقبال الضيف فيقول صاحب البيت قولوا له غير موجود ، أو يقول مثلا لولده الصغير قل لهم غير موجود ، الولد يذهب للرجل في الخارج ويقول له أبي يقول لك هو غير موجود ، فهذا حط من شأنه وإرتكب كبيرة من الكبائر
الثانية: النفاق, فهو يستبقل الضيف , يقول جلبت لنا الخير والسرور , ويشتمه
في باطنه أو بعد ذهابه يعني في نفسه أنا مشغول ، في ضيق ولكنه لا يقول أنا مشغول ولا يعتذر ، يستقبله وفي نفسه يتكلم ، ويقول يأتي من غير موعد ليس عنده ذوق ، فيحمل في نفسه عليه ، وهذا نفاق ، السيد دستىغيب رحمة الله يذكر يقول مثلا إذا قلت لشخص تفضل وأنت في نفسك لست صادق فقط مجاملة هذا نفاق ، لا يجوز لك أن تكذب
الثالثة: إعتذار صاحب الدار , ولكنه يبقى في لسان صاحبه الضيف..
يعتذر صاحب الدار ، ويقول أنا مشغول ، إعتذر ووكلامه في السليم ، لكن الضيف الذي جاء ووجد الإعتذار يبقى في لسانه وأينما ذهب ذهبنا لفلان ولم يستقبلنا ورجعنا .
هذا أمر خطير غير صحيح شرعا ، فيه غيبة وفيه بهتان وكل شيئ سيء ،
هذه حالات ثلاث كلها خاطئة الحالة الصحيحة:هي أن يعتذر صاحب البيت مع وجود العذر , ويعذره الضيف والزائر كما قال تعالى (و إن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم و الله بما تعملون عليم).
3ـ (والله بما تعملون عليم)يعلم بمن يسترق السمع ويتجسس.
شخص جاء للبيت وقيل له إرجع ما نستطيع إستقبالك ، فهل يسترق السمع ؟
الآية تقول ( الله بما تعملون عليم ) يعني يعلم بمن يسترق السمع ويتجسس ، شخص جاء وصار يتجسس ، الله يعلم بأنه يسترق السمع وهذا أمر محرم
خامسا: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم)
البيوت الغير مسكونة ليس عليكم جناح أن تدخلوها ، فيها متاع لكم ، لكم أن تدخلوها بغير إستئذان.
1ـ البيوت الغير المسكونة يقصد بها الأماكن العامة
الأماكن العامة لا تحتاج إلى إذن يعني مجمعات وفنادق وغيرها
2ـ فيها متاع لكم
معنى متاع بمعنى الإستمتاع والفائدة كالخانات والحمامات العمومية معنى متاع بمعنى :
ـ الإستمتاع والفائدة ، بعض التفاسير تقول الإستمتاع نفع لكم ، يعني تستفيدون كما يذهب الشخص مثلا للحمامات العمومية وغيرها ، الأماكن التي تستطيع أن تستفيد منها إستفادة عامة وهي لا تحتاج إلى إذن لدخولها ،
ـ أو أن المتاع هو الشيئ الذي يطلب وهو كالآثاث ، له أن يذهب ولا
يحتاج إلى إذن
3ـ يعلم من يستغل هذا الإستثناء (والله
يعلم ما تبدون وما تكتمون) .
يعلم من يستغل هذا الإستثناء , ويقتحم بيوت الناس بحجة عدم علمه بأنها مسكونة
ربما شخص مثلا يستغل أنه إذا كانت البيوت غير مسكونة يصح لي أن أدخل من غير إستئذان فيدخل للبيوت بحجة أنه لا أعلم إذا كانت مسكونة ، الله يعلم بنيته ويحاسبه على فعله .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين