تفسير سورة النور – الحلقة 17

الحلقة السابعة عشر
الآية(26)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين
قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿26﴾
صدق الله العلي العظيم
الحديث في هذه الآية ومعاني هذه الآية وإرتباط هذا الآيه بالآيات التي سبقتها
 أولا: المراد بالخبيثات والخبيثين , والطيبات والطيبين:
ما هو المراد من هذه الألفاظ وهذه المعاني ؟
إذا نظرنا إلى سياق الآيات السابقة التي تحدثت حول قضية الفاحشة والزنا والتزاوج من الزناة ،  والكلام عن الإفك والإفتراء، بذلك نستطيع أن نفهم من هذه المعاني ما يناسب تلك المعاني السابقة وفي تلك الجهات التي مرت ، وإن ذكر المفسرون معاني كثيرة ، ومنها:
المعنى الأول :
  في رواية عن ابن عباس: أن (الخبيثات) من السيئات ، المعنى يكون الخبيثات هي السيئات ، وهي الأعمال السيئة ، يقول هذا الرأي ، الخبيثات يعني السيئات للرجال ، فالسيئة هي الخبيثة  ، السيئة للرجل الذي يناسبها ، والطيب والحسنة : هي الحسنة تكون للرجل الطيب وهكذا ، فالطيبات من الحسنات للطيبين من الرجال.
2ـ الكلم الخبيث : هو للرجال الخبيثين وللنساء الخبيثات
والكلم الطيب للرجال الطيبين وللنساء الطيبات هذا المعنى ، يقول صاحب هذا الرأي : ألا ترى مثلا عندما يتكلم شخص مؤمن بكلام سيئ أو بفاحش يقال له هذا غير مناسب لك لا يناسبك ، أنت منزه عن هذا ، المفروض أنه لا يصدر منك هذا الكلام فهذا يناسب الفاسد ، فالآية تتكلم عن الكلام ومن يناسبهم الكلام.
 أشخاص متلبسون بالخبث وأشخاص متلبسون بالطيب .
فالمراد بالطيبين هم أشخاص متلبسون بالطيب ، بالصلاح ، بالعفه ، وهذا الرأي أوضح وأقرب للآية ويدل على هذا الرأي أمور :
أ ـ أن الرأيين الأولين الذين هما السيئة والثاني الكلم أو الكلام غير الطيب هما لايصدران عادة إلا أن أيكون الشخص سيئ بطبيعته ، لا يصدر الكلام السيئ والفاحش والمعصية إلا من شخص خبيث هو في نفسه ، فيكون المعنى الشخص خبيث ، ربما يقول قائل أنه يصدر في بعض الأحيان كما جئنا بالمثال أنه لماذا صدر منك هذا وهذا لا يناسبك ، نقول الآية عندما تأتي بهذا التشديد من الكلام هي لا تضع هذا الحكم وهذا التشديد وهذا البيان عن أمور عفوية أو غير مقصوده سهوا أو أنها شاذة و نادرة ، وإنما تتأتي بالكلام عن أشخاص هم يكونون في أنفسهم سيئين ، هم خبثاء
ب ـ ويدل عليه ماعن الباقر والصّادق(ع) الحديث (إنّ هذه الآية كآية (الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة) فالحديث عن أشخاص وليس الحديث عن الفعل بما هو فعل منفصل عن الذوات ، كما في هذه الآية ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة يقول همّ رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله(ص) مشهورين بالزنا فنهى الله عن أُولئك الرجال والنساء والناس على تلك منزلة..).
إذن الحديث فسر هذه الآية أنها تتحدث عن أشخاص كانوا يعرفون بالزنا وليس عن أفعال تصدر أو كلام يصدر
 ثانيا: الخبث هي الحالة المستقذرة التي يتصف بها غير المؤمن
التي يوجبها التلبس بالكفر ، الكافر ( مع تحقق معنى الكفر كما سيأتي وليس الكفر هو عدم الإيمان كيف ما كان ) فالكافر تكون نفسه خبيثة ، الذي يعيش معاني الكفر أيضا تكون نفسه خبيثة وقذرة ، والمؤمن ليس كذلك  
ثالثا: التخصيص وعدم التبرئة في الآية
 الآية خصصت ﴿الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات﴾ لماذا هذا التخصيص ؟
لوجود السنخية والمسانخة والمناسبة بينهم ، لأن الروح واحدة يشتركون في نفس التوجه ، في نفس الميول ، في نفس المشاعر ، في نفس الأهداف ، في نفس الأفعال الخارجية ، فهم متقاربون في أرواحهم وأفعالهم لذلك يخصصون بعضهم لبعض
1ــ في الإحتجاج
 عن الحسن بن علي (عليهما السلام): في حديث له مع معاوية وأصحابه ـ هذا الحديث يأتي من جهة التطبيق والجري وعد المصاديق ـ وقد نالوا من علي (عليه السلام):قال الإمام الحسن (ع) : ﴿الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات﴾ قال هم والله يا معاوية أنت وأصحابك ، وهؤلاء شيعتك,﴿والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات﴾ إلى آخر الآية، هم علي بن أبي طالب وأصحابه وشيعته،  فهذا تطبيق يبين في الإمام الحسن (ع) أن هناك سنخية بين الأشخاص ، هناك تناسب بين الأشخاص ، علي (ع) في جهة معه أشخاص يتناسبون (والناس إلى أطباعها أميل ) ، كل شخص يميل إلى أصحابه ، مثلا عندما يسافر شخص إلى بلد تجده يذهب إلى ما يتناسب معه ، الفاسد يذهب إلى محل الفساد ، المؤمن يذهب إلى محل الإيمان والعفة والتقوى وهكذا كل بحسبه
2ـ وفي حديث قال رسول الله (ص): (إذا طاب قلب المرء طاب جسده، وإذا خبث القلب خبث الجسد) التناسب الموجود ليس بينه فقط وبين الأخرين حتى في التأثر الجسد بالروح ، هناك تأثر وتسانخ بين الروح والجسد أيضا
3ـ الخبيثات والخبيثون غير مبرئين عن التلبس بالفاحشة
الآية ذكرت ( الخبيثات للخبيثين ) وهذا يعني انهم متسانخون والمعنى الذي نتحدث عنه إذا كان هو الكفر أو معاني الكفر وجوهر الكفر وإن لم يصرح بالكفر يعني شخص يحمل المعاني التي تتناسب مع الكفر يكون المعنى غير مبرئين ، لهم القابليه أن يتلبسوا بالفاحشة ، وإن لم يرتكبوها فهم غير مبرئين عن إرتكاب الفاحشة
 
رابعا: (الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ)
وهم من يتصفون بالإيمان والعفة ، الطيب والطيبة هوالذي يتصف بالإيمان ، كل شخص يتصف بالإيمان وصفه أنه طيب لأن طيبه بإيمانه وبعفته
 
خامسا: الطيب الذي تذكره الآية
(وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) يوجب أمور ، يحقق أمور ، ما هي هذه الأمور؟ :
1ـ التبرئة فعلا وواقعا: فإن الطيب مبرء من الفاحشة لا يرتكب الفاحشة (أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) مما يفترى عليهم ، مما يقولون فيهم هم مبرؤون ومنزهون عما يرمون به
2ـ المغفرة : (لَهُم مَّغْفِرَةٌ) الطيبون لهم مغفرة من الله ، لماذا ؟ لأنهم طيبون ، صفة الطيبة والطيب ، والطيب هنا بمعنى الطهارة التي تجعل لهم المغفرة
3ـ الرزق الكريم : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لهم الرزق الكريم ، السبب أنهم طيبون طاهرون
 سادسا: الذي يحقق الطيب ويوجب الطيب
الطيب ما هو منشأؤه ؟ هنا نقول هؤلاء أناس طيبون منشأ هذا الطيب الذي حدث عندهم هو:
1ـ الإيمان :  الإيمان سبب لهذا الطيب وهو سبب المغفرة ، قال تعالى: ﴿وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم﴾ إذا رأينا في الآية (أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم )
ننظر آية أخرى تتكلم عن الؤمنين وتقول (وآمنوا به يغفر لكم ) إذا نعلم أن هذا الطيب هو الإيمان أو أنه متسبب عن الإيمان لذلك صار يوجب المغفرة
2ـ العمل الصالح : هو الذي يحقق هذا الطيب وفي المقام هو الإحصان ، الإحصان يعني العفه ، التنزه عن الفاحشة وليس عدم إرتكاب الفاحشة ، يعني ليس كل من لم يرتكب الفاحشة عفيف ، وإنما هو القادرعلى إرتكاب الفاحشة ولا يرتكب ، هو العفيف قال تعالى ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ يكون طيب ويحيى الحياة الطيبة وعمل عملا صالحا ، وفي المقام هو إيمان وعمل وهو العفة ، وهو العمل القلبي 
ــ وفي هذه الآية ما يدل على ذلك وهو الربط بين الإيمان والإحصان : ﴿إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات) ربطت الآية بين الإحصان وبين الإيمان ،أن هناك تناسب وتلازم بين الإثنين
 سابعا: نستنتج ونستوحي من هذه الآية والآيات التي سبقتها أمور:
1ـ أن المرأة المتهة بالأفك غاية في العفة والإيمان.
عندما صار التركيز الشديد على تطهير وتنزيه المرأة التي ذكرت بالإفك ، يدل على انها إمرأة عفيفة جدا جدا وغاية في العفة والإيمان
2ـ أن هذه الآيات هي منهج للحياة وليست خاصة بحادثة معينه
وإن نزلت في حادثة معينة إلا أن الآية جاءت ، والآيات يعني قرأنا ستة وعشرين آية كلها تتحدث عن هذه المواضيع وتركز عليها لنجعله منهجا في حياتنا وليس لنتحدث عن حادثة وقعت أو أنها مرتبطة بشخصية معينه وإنما منهج للحياة عامة ، لذلك عممت الآيات ولم تاتي بذكر الأشخاص وإنما جعلت المعنى عام ينطبق في كل مورد
3ـ المجتمع المؤمن محكوم بالطهارة والبراءة من كل ما يرمى به
إلا إذا قامت البينة , المثبتة لخروج من يرتكب الفاحشة عن الطيبين ، وإلا المجتمع يعني يجب علينا هكذا نقول ، يجب علينا أن نتعامل مع المجتمع المؤمن على أنه طيب ، على أنه صالح ، ما لم تقم البينة العادلة الشرعية بالطريق الصحيح المطلوب فالمجتمع كله طيب وكله منزه ولا يجوز الحديث عنه في أي شيئ من هذه الأمورالتي تمس شرفه
4ـ المجتمع المؤمن محكوم بالمغفرة والرزق الكريم بحكم ظاهري لإيمانهم
الله سبحانه وتعالى فرض أن يتعامل الناس مع المؤمنين على أنهم لهم مغفرة ولهم رزق كريم إلا إذا جاء المنافي وأثبت الخلاف بالبينه الشرعية
5ـ الآية تكشف جذور الحكم بحرمة الزواج من الزاني والزانية
لماذا الحكم بحرمة الزواج من الزاني والزانية ، هناك ذكرت الآيات (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ) هنا هذه الآية بينت أن العلة والسبب هوالسنخية والتناسب بين الإثنين ، بين القسمين الكافر وبين الزاني ، فهنا سنخية وتناسب بينهم فلهم أن يتزوجوا من بعضهم البعض وليس للأخرين أن يتزوجوا منهم
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

شاهد أيضاً

تفسير سورة النور – الحلقة 16

تفسيرسورة النور الحلقة16 الآية (23ـ25) أعوذبالله من الشيطان الرجيم بسمالله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *